وعجز هذه النخبة وعدم رغبتها في قبول هذه الحقيقة تدفع نحو اتخاذ مزيد من الإجراءات الجذرية من قبل جميع الأطراف المتصارعة.
بعد محاولة اغتيال رئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيتسو، لم يكن من الممكن فحسب، بل من الضروري افتراض إمكانية وقوع محاولة مماثلة لاغتيال ترامب. فشدة الهستيريا وشيطنة ترامب في وسائل الإعلام التي تسيطر عليها أوساط العولمة أكبر بكثير مما كانت عليه بالنسبة لروبرت فيتسو. وإذا كانت حدة أقل كافية لمحاولة اغتيال فيتسو، فإن حالة ترامب كانت مسألة وقت لا أكثر، وكان يكفي لإدارة بايدن فقط عدم التدخل والعرقلة.
إن الإجراءات، أو بالأحرى التقاعس عن اتخاذ الإجراءات من جانب أمن ترامب أثناء محاولة الاغتيال، يسمح لنا بافتراض وجود مؤامرة كان من المفترض أن يُقتل فيها ترامب على يد “مجنون منفرد”، بعدها يقوم جهاز الأمن بالقضاء على مطلق النار وبالتالي إغلاق هذه القضية.
لكن ترامب على قيد الحياة، فماذا بعد؟
الوضع يتجه تدريجيا نحو الكارثة، لكن الأهم أنه كارثي بالنسبة للطرفين، وليس بالنسبة للديمقراطيين وحدهم. وبرغم تزايد فرص ترامب بشكل حاد للفوز في الانتخابات الرئاسية، إلا أنه لا يمكن للمرء أن يحسده.
فعلى الرغم من استخدام ترامب لخطاب تصالحي وموحّد بعد الهجوم، إلا أن المعسكر المعارض لا يمكن سوى أن يتوقع الانتقام، ما ضاعف دوافع معارضي ترامب للحفاظ على السلطة بأي ثمن. ولا أستبعد أن تكون هناك محاولات جديدة للقضاء على ترامب.
وتؤدي الأزمة الاقتصادية المتفاقمة إلى اشتداد الصراع على الموارد والسلطة، وقد وصل الصراع فعليا إلى مستوى التحييد الجسدي للمعارضين، ومن السذاجة الاعتقاد بأن حدة الصراع ستنخفض بعد الانتخابات، بل على العكس من ذلك، سوف تزيد.
ويخبرنا بعض الفلاسفة و”الخبراء في شؤون النخبة” أن بايدن يحظى بدعم الماليين، بينما يحظى ترامب بدعم الصناعيين. وهذا في حد ذاته تبسيط مخلّ. نعم، فإن ذلك، على مستوى الأيديولوجية المعلنة، صحيح، غلا أنه في الواقع، وفي السياسة العملية، فإن ترامب لا يقل عن بايدن في إخلاصه لتنفيذ إرادة المراكز والمجموعات المالية الدولية. فقد صرح ترامب منذ أيام بأنه يفكر في تعيين الرئيس التنفيذي لبنك “جي بي مورغان” JPMorgan جيمي ديمون لمنصب وزير الخزانة، وسيترك جيرم باول رئيسا للاحتياطي الفيدرالي. وفي فترة ولايته الأولى، قام ترامب أيضا بتعيين المصرفي الاستثماري ستيفن منوشين، القادم من بنك غولدمان ساكس Goldman Sachs والشريك التجاري لجورج سوروس، في منصب وزير الخزانة.
على مستوى الشعارات، يعلن ترامب عن سياسة إعادة الصناعة إلى الأراضي الأمريكية. إلا أن هذا ليس أكثر من شعار، وهو في واقع الأمر مستحيل التطبيق، فتكلفة العمالة، أي مستويات المعيشة، في الولايات المتحدة مرتفعة للغاية. وتراجع التصنيع في الولايات المتحدة يشكل مرحلة طبيعية من العملية التاريخية ولا يمكن إيقافها أو عكسها حتى يصبح مستوى المعيشة في الولايات المتحدة مساويا، على سبيل المثال، لمستوى المعيشة في الصين. أي أن ذلك مستحيل بدون انهيار اقتصادي أمريكي شامل، سيؤدي بدوره إلى انهيار البلاد، ويجعل أي استثمار في البلاد غير ذي معنى لعقود من الزمن، بغض النظر حتى عن رخص الأيدي العاملة.
إن تلك قضية أخرى تستحق مقالا منفصلا، لكني سأكتفي بالإشارة إلى أن ترامب لن يحقق نجاحا في الاقتصاد وفي إنقاذ الولايات المتحدة.
لكن هناك شيء آخر مهم، هو أن الاقتصاد الأمريكي يرقد حاليا على جهاز تنفس اصطناعي، وأولئك الذين يسيطرون عليه لديهم الفرصة لقطع تدفق الأكسجين وخلق أزمة محلية بغرض القضاء على منافس أو سياسي هنا أو هناك. وقد رأينا كيف أنقذ البنك الاحتياطي الفيدرالي، في أزمة عام 2008، جميع البنوك الكبرى، باستثناء “ليمان براذرز” Leman Brothers.
ويخلق المصرفيون، بين الحين والآخر، أزمة محلية تهدد بالتصعيد إلى نهاية العالم “هرمجدون” من أجل إجبار الاحتياطي الفيدرالي على استئناف طباعة الدولارات، التي ستتدفق مرة أخرى في نهر هادر إلى البنوك الدولية وأكبر الحيازات الاستثمارية…
واقع الأمر هو أنه لا يوجد صدام بين المصرفيين والصناعيين، بمعنى أن القوى غير متكافئة لإحداث صدام حقيقي. فـ “سادة المال العالمي”، أي أكبر البنوك والحيازات الاستثمارية، يمسكون بالسلطة بقوة في أيديهم على نحو يسمح للسياسيين، على مستوى أدنى، ممن يركضون تحت أقدامهم، بقتل بعضهم البعض في الصراع من أجل مكان على خشبة المسرح، حيث تتناثر فتات السلطة التي تتساقط من طاولة أصحاب البلاد الحقيقيين.
لكن، وبينما يحدث كل هذا داخل النظام، فإن النظام يحتضر.
ولا يملك ترامب أو بايدن الفرصة للخروج من دوامة السقوط إلى الهاوية، ومسار السقوط العام للبلاد. وقد خفض ترامب الضرائب في ولايته الأولى، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال إلى زيادة عجز ميزانية الدولة. وبعد ذلك، لم يكن أمامه خيار سوى الصراخ والضغط على الاحتياطي الفيدرالي لاستئناف طباعة النقود، لتمويل مبادرات ترامب الضريبية والميزانية الحكومية. قاوم بنك الاحتياطي الفيدرالي لفترة طويلة، لكن الصدمة الاقتصادية الناجمة عن الحجر الصحي المرتبط بـ “كوفيد-19″، أجبره على استئناف التيسير الكمي على نطاق غير مسبوق. لكن حتى هذه الأداة استنفدت نفسها، فقد أعقب التيسير الكمي التالي ارتفاع في التضخم بالولايات المتحدة.
ويعتقد أن المصرفيين يقفون وراء بايدن والحزب الديمقراطي. ويمكن لهؤلاء أن يقيموا “هرمجدون” مالي لترامب في ظرف أسبوع واحد فقط. اختر بين اثنين: فإما زيادة في أسعار الفائدة، وانهيار البورصات، وأزمة للديون والمصارف مع تجميد الودائع وتبخر مدخرات جميع سكان البلاد. وإما استئناف التيسير الكمي (الذي أنا على يقين من أن ترامب نفسه سيصر عليه عند أدنى مشكلة في الاقتصاد)، والذي سيؤدي مرة أخرى إلى تسريع التضخم إلى مستويات قياسية جديدة، وهو ما سيدمر المدخرات مرة أخرى ويقلل مداخيل الأسر.
ولإنقاذ الولايات المتحدة نحتاج إلى خفض حاد في إنفاق الدولة والشعب، وفرض قيود صارمة على الاستهلاك، إلا أن هذا لن يحدث في عهد أي رئيس، وتلك هي الشروط الأساسية لـ “الديمقراطية”.
في أي من الخيارات، سوف ينهار دعم ترامب قريبا جدا، وهو أمر لا مفر منه بشكل عام، نظرا للأزمة الاقتصادية المتنامية. وبعد حوالي 6 أشهر إلى عام من الانتخابات، وحتى في غياب أي مساعدة من “أسياد المال”، ستتاح للديمقراطيين الفرصة لقيادة ثورة الجماهير، وإزاحة ترامب من البيت الأبيض. وسيحاول الديمقراطيون على الأرجح القيام بذلك، نظرا لشراسة المواجهة. وإذا قرر ترامب حقا مواجهة المصرفيين، فبإمكانهم خلق الظروف الملائمة لأعمال شغب بسرعة كبيرة وفي أي وقت، وهو ما يمكن أن يفضي إلى حرب أهلية في البلاد.
إن حجم التحديات التي تواجه الولايات المتحدة ضخم للغاية، ويتجاوز قدرات الشعب الأمريكي أو السياسيين المصرفيين الحاكمين.
ومن أجل مواجهة عسكرية مع روسيا، لا سيما مع عملاق صناعي كالصين، تحتاج الولايات المتحدة إلى تعبئة على غرار “الشيوعية العسكرية” السوفيتية إبان الحرب الأهلية في روسيا، أو الاقتصاد الستاليني، وتركيز السلطة السياسية في يد واحدة، والتخطيط الموجه للاقتصاد، وتقييد قوى الاستهلاك، وتوجيه جميع الموارد للحرب. ومن أجل التنفيذ الفعلي للشعارات التي أعلنها ترامب، هناك حاجة إلى نفس مجموعة الإجراءات الصارمة تقريبا.
كل ذلك مستحيل، في ظل الظروف الراهنة بالولايات المتحدة، وأي محاولة لتنفيذ ذلك ستؤدي إلى التمرد ضد السلطات، وفي ضوء الانقسام الكامل في المجتمع الأمريكي، سيكون هذا كافيا لاندلاع حرب أهلية.
باختصار، لكي ينجح ترامب، يحتاج أن يصبح لينين وينفذ انقلابا ويركز السلطة في يديه، على غرار الثورة الشيوعية عام 1917، مع الإبادة الكاملة والإزاحة التامة للنخب السابقة، وتغيير هيكل النظام الاقتصادي الحالي. بمعنى أن ترامب يحتاج إلى ثورة، وتغيير بأبعاد تاريخية.
وحتى لو كان ترامب راغبا وقادرا على القيام بذلك، فإن الاضطرابات الداخلية بهذا الحجم لا تتوافق مع الهيمنة في العالم التي يقوم عليها الرخاء الاقتصادي للولايات المتحدة. وبنهاية هذا الرخاء ستبدأ حرب أهلية، أي أن محاولة الإنقاذ نفسها ستدمر الولايات المتحدة.
في كل الأحوال، فإن فوز ترامب في الانتخابات، إذا بقي على قيد الحياة، لن ينهي المواجهة، بل على العكس سيؤجج من لهيبها. في الوقت نفسه، سيكتسب ترامب بعض النفوذ لتسريع زعزعة استقرار البلاد والعالم كجزء من برنامجه المثالي، الذي سيحاول على الأرجح تنفيذه على الأقل في جزء من سياساته الخارجية. على سبيل المثال، بدء التصعيد مع الصين…
على مستوى السياسات الداخلية، من المرجح أن تتسبب تدابير ترامب ضد الهجرة في أزمة سياسية داخلية، ونزعات انفصالية لدى بعض الولايات، وهو ما قد يؤدي أيضا إلى حرب أهلية. وعلى الأرجح لن يتمكن ترامب من التراجع عن التدابير الجذرية.
لا يسعني سوى أن أكرر أن إنقاذ الولايات المتحدة أمر مستحيل. وحتى مجرد محاولة فهم هذا التشابك المعقد من المشكلات والأزمات في الولايات المتحدة سيدفع أي خبير إلى الجنون، ناهيك عن المواطنين العاديين.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف
رابط قناة “تليغرام” الخاصة بالكاتب
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب